تمثل عمليات ميليشيا الحوثي في البحر الأحمر ضد السفن التجارية العالمية نموذجاً واضحاً للتناقض بين الشعارات المعلنة والمصالح الحقيقية في السياسة الدولية، فبينما ترفع هذه الميليشيا شعارات “نصرة فلسطين” و”مقاومة إسرائيل”، تكشف الوقائع على الأرض عن سردية مختلفة تماماً، ذات أبعاد استراتيجية واقتصادية معقدة تتجاوز الخطاب الإعلامي المبسط.
التاريخ يشهد أن ميليشيا الحوثي مارست أعمال القرصنة في البحر الأحمر قبل الحرب الإسرائيلية على غزة بسنوات، وكانت جزءاً من استراتيجية إيرانية أوسع للسيطرة على المضائق الاستراتيجية، كما أن هذه الميليشيا لم تحرك ساكناً خلال هدنة غزة، عندما تحولت الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين إلى الضفة الغربية، مما يفضح زيف الادعاءات الحالية بأن عملياتها تأتي نصرة للقضية الفلسطينية.
المفارقة الكبرى تكمن في أن إسرائيل، المستهدف المعلن من هذه العمليات، هي من أقل المتضررين منها، فقد تمكنت تل أبيب من التكيف سريعاً مع الوضع المستجد من خلال تطوير مسارات تجارية بديلة، سواء عبر طرق برية أو بحرية تلتف حول القارة الأفريقية.
وقد ساعدها في ذلك الدعم اللوجستي والعسكري الأمريكي الذي وفر حماية إضافية لمصالحها، فضلاً عن البنية التحتية والتكنولوجيا المتقدمة التي تملكها والتي سمحت لها بامتصاص الصدمة الأولية وإعادة توجيه تجارتها بكفاءة.
في المقابل، تعاني دول عربية كالسعودية ومصر من تداعيات كارثية لهذه الفوضى المفتعلة، فالسعودية، التي خاضت سنوات من الحرب لمواجهة الخطر الحوثي، تجد نفسها اليوم أمام تهديد متجدد لأمنها القومي وخطر على منشآتها النفطية، في وقت تسعى فيه إلى تنفيذ خطط التنمية الطموحة ضمن رؤية 2030.
كما تتعرض سمعتها كمزود موثوق للطاقة للخطر مع تزايد المخاوف من صعوبات الشحن واحتمالات تعطل سلاسل الإمداد.
أما مصر، فتواجه تراجعاً حاداً في إيرادات قناة السويس، التي تعد أحد أهم مصادر العملة الصعبة للبلاد.
وتشير التقديرات إلى أن تحويل مسارات الشحن البحرية بعيداً عن القناة قد يكلف الاقتصاد المصري مليارات الدولارات سنوياً، في توقيت تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية حادة وتضخم مرتفع، يضاف إلى ذلك تأثر قطاع السياحة في منطقة البحر الأحمر، والذي يمثل ركيزة أساسية للاقتصاد المصري.
تحليل الأبعاد الاستراتيجية للوضع الراهن يكشف عن تقاطع مصالح غير معلن بين الفوضى التي تفتعلها ميليشيا الحوثي والأهداف الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
فالولايات المتحدة، التي أعلنت مراراً عن قلقها من التهديدات الحوثية للملاحة الدولية، تجد في هذه الأزمة فرصة لتحقيق أهداف استراتيجية متعددة، أبرزها كبح جماح النفوذ الصيني المتنامي في منطقة الشرق الأوسط.
فالصين، التي تعد أكبر دولة مستهلكة للنفط في العالم، تعتمد بشكل رئيسي على إمدادات النفط من دول الخليج العربي، والتي تمر بالضرورة عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر.
ومع تعطل هذه الطرق بسبب التهديدات الحوثية، تضطر الصين إلى البحث عن مصادر بديلة للطاقة أو تحمل تكاليف إضافية ناتجة عن تغيير مسارات الشحن، مما يؤثر سلباً على اقتصادها ويعرقل مبادرة الحزام والطريق التي تمثل مشروعها الاستراتيجي الأهم.
بالتزامن مع ذلك، تسعى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي بدأت ولايتها الثانية بإعلان حالة الطوارئ في قطاع الطاقة والانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، إلى تعزيز صادرات النفط والغاز الأمريكي إلى الأسواق العالمية.
وتشكل الاضطرابات في طرق الإمداد التقليدية فرصة ذهبية لواشنطن لتقديم نفسها كبديل موثوق لتلبية احتياجات الطاقة العالمية، مما يعزز نفوذها الاقتصادي والسياسي على حساب منافسيها.
إيران، الداعم الرئيسي لميليشيا الحوثي، تلعب دوراً محورياً في هذا المشهد المعقد، فطهران، التي تواجه عقوبات اقتصادية قاسية، تسعى إلى تعزيز أوراق الضغط التي تملكها في المفاوضات مع الغرب، وخاصة في ملف برنامجها النووي.
ومن خلال استخدام الوكلاء الإقليميين، كالحوثيين، تحاول إيران تقويض الاستقرار في المنطقة وإظهار قدرتها على التأثير على الأمن العالمي، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة أو حلفائها الإقليميين.
لكن من المهم الإشارة إلى أن هذه الفوضى المفتعلة لن تؤدي بالضرورة إلى وقف الحرب في غزة، بل على العكس، قد تسهم في إطالة أمدها من خلال تشتيت الجهود الدولية وصرف الانتباه عن الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
كما أن ربط وقف العمليات الحوثية بإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة هو محض تضليل، يتجاهل الحقيقة التاريخية المتمثلة في أن نشاط الميليشيا الحوثية في البحر الأحمر لم يكن يوماً مرتبطاً بالقضية الفلسطينية، بل كان دائماً جزءاً من استراتيجية إقليمية أوسع.
الواقع أن العديد من الحوادث المسجلة تؤكد أن الحوثيين استهدفوا سفناً تجارية لا علاقة لها بإسرائيل، بل إن بعضها كان يحمل مساعدات إنسانية للشعب اليمني نفسه، مما يفضح زيف الادعاءات بأن عملياتهم تستهدف فقط المصالح الإسرائيلية، وهذا السلوك يثير تساؤلات مشروعة حول الأهداف الحقيقية للميليشيا والجهات التي تقف خلفها.
من ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل ارتكبت خلال هدنة غزة انتهاكات صارخة بحق الشعب الفلسطيني لا سيما في الضفة الغربية، دون أن تتحرك ميليشيا الحوثي لنصرته كما تدعي، ويبدو جلياً أن استخدام القضية الفلسطينية في هذا السياق هو محاولة لإضفاء شرعية على عمليات عسكرية تخدم في المقام الأول مصالح إيران الإقليمية، وتسهم في تنفيذ أجندتها التوسعية.
المشهد المتشكل في البحر الأحمر اليوم يشير إلى تحول استراتيجي في موازين القوى العالمية، حيث تتحول المنطقة إلى ساحة للصراع بالوكالة بين القوى الكبرى.
وفي ظل هذا الوضع، تبدو الدول العربية هي الخاسر الأكبر، حيث تتحمل التكلفة الاقتصادية والأمنية لهذه الفوضى، بينما تستفيد منها أطراف أخرى.
يدعو محللون سياسيون، إلى تفكيك هذه المعادلة المعقدة وكشف حقيقة المصالح المتضاربة التي تقف خلف الأزمة في البحر الأحمر، لاسيما وأن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في تعطيل الملاحة البحرية أو تهديد الأمن الإقليمي، بل في إعادة تشكيل خارطة النفوذ والمصالح في المنطقة برمتها، وفق رؤية استراتيجية لا تضع مصالح شعوب المنطقة في أولوياتها.
يمكن القول إن الفوضى التي تفتعلها ميليشيا الحوثي في البحر الأحمر هي جزء من لعبة شطرنج جيوسياسية معقدة، يستخدم فيها الحوثيون كبيادق لتحقيق أهداف لاعبين إقليميين ودوليين.
وفي هذه اللعبة، تبدو دول المنطقة، خاصة السعودية ومصر، هي المتضرر الرئيسي، بينما تتمكن إسرائيل من تجاوز الآثار السلبية، وتجد الولايات المتحدة فرصة لإعادة رسم خارطة الطاقة العالمية وكبح طموحات الصين في المنطقة، وهذا يؤكد أن الشعارات المرفوعة غالباً ما تخفي تحتها حقائق أكثر تعقيداً وترابطاً مما يظهر على السطح.