منذ اندلاع الحرب في اليمن قبل أكثر من تسع سنوات، توالت المبادرات الإقليمية والدولية لوقف النزيف وإعادة البلاد إلى مسار السلام؛ غير أن جميع هذه المساعي اصطدمت بجدار التعنت الحوثي، الذي بات يُمارس الرفض بوصفه استراتيجية متعمدة تهدف إلى فرض معادلة سياسية قائمة على الاستسلام لا الشراكة.
وفي ظل التطورات الإقليمية الأخيرة، تتجه مليشيا الحوثي الإرهابية نحو مرحلة جديدة من الضغط، مدّعية أنها “لا تُقهر عسكرياً” وأنها “انتصرت على إسرائيل وأمريكا”، في محاولة لفرض شروط استسلام كاملة على الحكومة اليمنية الشرعية.
من مفاوضات الكويت 2016، إلى اتفاق ستوكهولم 2018، ثم المبادرة السعودية 2021، وهدنة الأمم المتحدة في 2022 و2023، وصولاً إلى مبادرة سلطنة عمان، قابل الحوثيون كل مبادرة إما بالمماطلة، أو بفرض شروط تعجيزية، أو بتفجير الوضع ميدانياً.
هذا النمط لم يكن عابراً، بل يُعبّر عن استراتيجية ثابتة هدفها إطالة أمد الحرب لتكريس السيطرة، وفرض وقائع سياسية وعسكرية جديدة، وكسب الوقت لتوسيع شبكة التحالفات والدعم الإقليمي، لا سيما من إيران، وهو سلوك متكرر يكشف أن الحوثيين لا يقاربون التفاوض كفرصة للوصول إلى حل، بل كمنصة لفرض مطالب تؤدي في النهاية إلى استسلام الطرف الآخر.
أحد أخطر نتائج تعنت الحوثيين هو انقطاع مرتبات موظفي الدولة منذ العام 2016، بعد نهبهم لاحتياطي البنك المركزي واستيلائهم على الإيرادات العامة.
هذه السياسة ضربت القطاع العام، وأنتجت انهياراً في خدمات الصحة والتعليم، وتوقف كثير من المستشفيات والمدارس، وزيادة مستويات الفقر والجوع والبطالة، ما أدى إلى تمزق النسيج الاجتماعي واستغلال المعاناة لأغراض التجنيد الأيديولوجي والطائفي.
في الوقت نفسه، استمروا في جباية الإيرادات والضرائب من المواطنين، ما يؤكد أن قطع الرواتب كان قراراً سياسياً هدفه الضغط وليس عجزاً في الموارد.
الحوثيون لم يرفضوا السلام فقط، بل يسعون إلى فرض “شروط استسلام” على الحكومة الشرعية، عبر المطالبة بسلطة سياسية واقتصادية دون التزامات دستورية أو قانونية، وإقصاء المكونات الوطنية الأخرى، واحتكار القرار تحت مظلة “الولاية”، وتحويل أي هدنة أو اتفاق إلى فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة التموضع. هذا النهج يُظهر أنهم لا يؤمنون بالدولة المدنية أو الشراكة السياسية، بل يرون أنفسهم أصحاب حق إلهي في الحكم لا يمكن التفاوض عليه.
اليوم، وفي ظل الصراع في غزة والعمليات البحرية في البحر الأحمر، تحاول مليشيا الحوثي الإرهابية استغلال هذه التطورات لبناء سردية جديدة مفادها أنها “قوة إقليمية لا تُقهر”، وأنها “انتصرت في مواجهة إسرائيل وأمريكا”.
هذا الخطاب ليس مجرد دعاية، بل جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى الضغط على الحكومة اليمنية للقبول بشروط الاستسلام، انطلاقاً من ادعاء أنه “لا يمكن لأحد هزيمتهم عسكرياً”.
إنهم يحاولون ترجمة ما يصفونه بـ”الانتصار الإقليمي” إلى مكاسب سياسية محلية، من خلال إجبار الحكومة على التسليم بأن المواجهة العسكرية غير مجدية، وأن الحل الوحيد هو القبول بمطالبهم كاملة.
المواقف الدولية المتراخية شجّعت الحوثيين على التمادي، خصوصاً في ظل غياب ضغط حقيقي من المجتمع الدولي لإجبارهم على الانخراط الجاد في السلام، والرعاية الإيرانية الواضحة للدور الحوثي كذراع إقليمي مشابه لنموذج “حزب الله”، واستخدام ورقة الملف الإنساني في المحافل الدولية لابتزاز المانحين، دون تقديم أي التزام حقيقي للسلام.
هذا التردد الدولي أعطى الحوثيين انطباعاً بأن الوقت يعمل لصالحهم، وأن بإمكانهم مواصلة سياسة فرض الأمر الواقع دون عواقب حقيقية.
الواضح اليوم أن مليشيا الحوثي لا ترى في السلام خياراً، بل عقبة في طريق مشروعها السلطوي.
كل الوقائع تؤكد أن الحوثيين لن يجنحوا للسلام طواعية، لأنهم لا يرونه ضماناً لبقاء مشروعهم. إنهم يراهنون على أن الزمن سيجبر خصومهم على الاستسلام، خاصة مع ادعاءاتهم الحالية حول “الانتصار الإقليمي”، وكل تأخير في الحسم السياسي والعسكري يزيد معاناة اليمنيين، ويعمّق نفوذ المشروع الإيراني، ويهدد الأمن القومي للمنطقة بأسرها.
في هذا السياق، يصبح من الواضح أن الخيار العسكري المدعوم سياسياً وشعبياً قد أصبح ضرورة وطنية، لا مجرد احتمال.
فلا سلام مع من يرى في الدولة كفراً، وفي القانون عدواً، وفي الوطن غنيمة، والأهم من ذلك، لا يمكن السماح لهم بتوظيف ادعاءات “الانتصار الإقليمي” لفرض شروط الاستسلام على دولة وشعب رفضوا منذ البداية المشروع الظلامي والعنصري الذي يحملونه.