عاد التوتر مجددًا إلى البحر الأحمر، نتيجة تصعيد ميليشيا الحوثي من هجماتها البحرية على السفن التجارية وناقلات الشحن، في تطور ميداني يتجاوز نطاقه المحلي ليرتبط بترتيبات إقليمية معقدة، وبمناورات استراتيجية تقودها أطراف إقليمية ودولية، وعلى رأسها إيران وإسرائيل.
لماذا هذا التصعيد في هذا التوقيت بالذات؟ ولماذا ظل الحوثي صامتًا طوال فترة الحرب بين إيران وإسرائيل، التي استمرت اثني عشر يومًا وانتهت في 24 يونيو 2025، ليعاود بعد أيام قليلة شن هجمات بحرية؟ وهل تتحرك الميليشيا وفق حسابات يمنية مستقلة، أم أنها أداة تنفيذ ضمن لعبة نفوذ تتجاوز الجغرافيا اليمنية بكثير؟.. اسئلة لطالما سألها الجميع، نحاول قراءة الأسباب والاعتماد على معلومات من مصادر وربطها في سياق هذه القراءة..
رغم أن الحوثيين يقدّمون أنفسهم كجزء من “محور المقاومة” الممتد من طهران إلى غزة، إلا أنهم لم ينفذوا أي عملية ضد إسرائيل خلال الحرب الأخيرة التي تعرضت فيها إيران لقصف مكثف من قبل إسرائيل، وهو ما شكل صدمة لدى كثير من المراقبين الذين توقعوا أن تتحرك الجماعة لفتح جبهة جديدة تخفف الضغط على طهران.
هذا الصمت المريب لا يمكن تفسيره إلا في إطار حسابات خفية، بعضها قد يتعلق بتعليمات مباشرة من إيران لتجنب التصعيد غير المنضبط، لكن جزءًا آخر ـ وهو الأهم ـ يرتبط بوجود قنوات غير معلنة بين الحوثيين وإسرائيل، أو على الأقل وجود تفاهم غير مباشر بعدم التعرض لبعضهما.
وهو ما عززته معلومات استخباراتية غربية تحدثت عن أن الحوثي، رغم كونه ذراعًا إيرانيًا في اليمن، يلعب دورًا خفيًا كمخلب للموساد الإسرائيلي في جنوب الجزيرة العربية، مستفيدًا من موقعه الجغرافي للعب دور مزدوج، مواجهة مصالح الغرب من جهة، وضمان عدم تهديد المصالح الإسرائيلية من جهة أخرى.
مناورة استراتيجية أم ابتزاز تفاوضي؟
بعد انتهاء الحرب مباشرة، وتحديدًا في مطلع يوليو 2025، بدأ الحوثيون في تنفيذ هجمات على السفن في البحر الأحمر، مستهدفين مصالح لا علاقة لها بإسرائيل، في مشهد يكشف أن التصعيد لم يكن ردًا على “العدوان الإسرائيلي”، كما يُروّج إعلامهم، بل جزء من خطة إيرانية لخلط الأوراق في الممرات البحرية الحيوية، وإرسال رسائل ضغط غير مباشرة للولايات المتحدة وشركائها في الخليج.
وفي حين يبدو التصعيد الحوثي في ظاهره دعمًا لغزة، إلا أن التوقيت يثير الريبة: لماذا الآن بعد أن انتهت الحرب؟ ولماذا لم يتم استهداف إسرائيل عندما كانت تهاجم طهران؟ كل ذلك يعكس أن “غزة” مجرد شعار دعائي يستخدمه الحوثي لتبرير تحركات لا علاقة لها بفلسطين، بل ترتبط بأجندة إقليمية أوسع.
بعد عسكري
من الناحية العسكرية، يمثل البحر الأحمر نقطة استراتيجية فاصلة في معادلة الردع الإقليمي، كونه شريانًا حيويًا يمر عبره أكثر من 10% من التجارة العالمية، بما في ذلك النفط والغاز والمواد الغذائية، واستهدافه لا يعني فقط عرقلة الملاحة، بل إيصال رسالة بأن طهران ـ عبر وكلائها ـ تستطيع قلب الطاولة متى شاءت.
وبعد الضربات الأمريكية والبريطانية التي دمّرت منصات إطلاق ورادارات الحوثي في أواخر 2024، عاد الدعم الإيراني من خلال سفن استخباراتية أبرزها “MENSAR” (الاسم الجديد لسفينة “بهشاد”)، والتي رُصدت مؤخرًا قرب السواحل اليمنية الغربية، ما يعني أن غرفة العمليات البحرية الإيرانية قد أُعيد تفعيلها، مما يمنح الحوثيين قدرات جديدة على تحديد الأهداف وتنفيذ الهجمات.
البعد الاقتصادي
اقتصاديًا، فإن استهداف البحر الأحمر له تأثيرات مباشرة على أسعار الشحن والتأمين والنفط، وهو ما يدركه الحوثي جيدًا، ولذلك، فإن تصعيده البحري يخدم هدفين رئيسيين..
الضغط على دول الخليج – عبر تهديد المصالح النفطية والتجارية للسعودية والإمارات، ودفعهما للضغط على الحكومة اليمنية الشرعية لتقديم تنازلات سياسية.
ابتزاز المجتمع الدولي – باستخدام تهديد الملاحة كورقة لفرض شروط سياسية على طاولة المفاوضات الأممية، سواء في ملف الحل السياسي باليمن أو في إطار المساومات الإيرانية الأوسع مع الغرب.
وفي حال تم التوصل إلى هدنة بين إسرائيل وحماس، كما تشير بعض المبادرات، سيسعى الحوثي لنسب الفضل لنفسه في فرض “السلام”، وطرح ملف البحر الأحمر كورقة قوة تفاوضية، تهدف لانتزاع مكاسب داخلية مقابل التهدئة.
الحوثي خنجر مزدوج
الخلاصة الأهم أن الحوثيين لا يتحركون من صنعاء، بل من طهران وربما من أماكن أخرى؛ فبينما تُظهرهم إيران كأداة مقاومة، إلا أن صمتهم خلال قصف طهران، وظهورهم المفاجئ بعد توقف الحرب، يكشف أنهم مجرد أداة مرنة تُستخدم وفق الحاجة، وتُعطل حين لا تلزم.
وهنا تبرز المفارقة الكبرى، الحوثي خنجر إيراني في خاصرة الخليج، وخنجر إسرائيلي في خاصرة العرب، يخدم طهران بتخريب استقرار المنطقة، ويخدم تل أبيب حين يصمت، وحين يُبقي النار مشتعلة في أماكن لا تلامس أمن إسرائيل.
تصعيد الحوثي في البحر الأحمر ليس فعلًا مستقلًا، بل جزء من استراتيجية معقدة تتقاطع فيها المصالح الإيرانية والإسرائيلية على نحو مثير للقلق، ووراء شعارات “نصرة غزة” و”دعم المقاومة”، هناك صفقات وظيفية وتحالفات غير معلنة، تقود ميليشيا تتقن اللعب في المساحات الرمادية، بينما يدفع اليمن والمنطقة ثمن هذا الدور المشبوه.